لم أنتبه “لمريتا” للوهلة الأولى، كانت القاعة تعج بالمحامين والموكلين في نقاش جدي. لمحتها فيما بعد تجلس خلف “جوزيت” تنهض بين الحين والأخر، تهمس في أذنها أو تحضر لها بعض الأوراق، وحتى وإن برحت القاعة سرعان ما تعود إليها مهرولة. متوسطة الطول باستدارة خفيفة، بصدر واسع وثقيل، شعرها الأشقر يغطي منتصف ظهرها بشيء من الفوضى.
نادت جوزيت على ماريتا التي سرعان ما اقتربت منا…
– هذه صديقتنا.. سنراها كثيرا هذه الأيام لأننا نعمل معاَ في هذه القضية.
– مرحبا، سنؤدي معها الواجب. أمالت رأسها ورسمت على وجهها ابتسامة.
تجاوبت معها ببعض من الجفاء، لم تعجبني، شعرت بابتسامتها مصطنعة واهتمامها مبالغا فيه. صادفت كثيرات مثل “ماريتا” من قبل، في مكاتب محاماة شهيرة، ابتسامة وترحيب واهتمام متمادٍ، جزء من العلاقات العامة لهذه المكاتب.
– إن أردت شيئا في هذه الجزيرة، لا تترددي.
– أشكرك.
ثم أدرت ظهري إلى ماريتا وعدت إلى أوراقي فلا شأن لي بهذه الجزيرة التي ما كنت لأزورها لولا ملف القضية التي بين يديّ.
عادت ماريتا وبيدها فنجان من الشاي تسبح فيه قطعة ليمون، وقالت لي بذكاء..
– علمت من جوزيت أنك لا تشربين القهوة.. كيف هذا؟ أنت أول محامية اصادفها لا تحتسي القهوة.. ثم ابتسمت…
حينها فقط، رأيت ابتسامة صادقة، أضاءت وجهها المستدير وتوقفت عند وجنتيها المنتفختين.
كانت الأوراق قد أنهكتني، وشهادات الشهود ملأت رأسي. نظرت اليها مليا..
– ماريتا.. أين يمكن أن أذهب هذا المساء في جزيرتكم؟
ضحكت “ماريتا” وأجابتني…
– لا يوجد الكثير… الجزر تهجع باكرا في الشتاء، وتستفيق بكسل في الربيع، أما في الصيف فتجن.
حركت كتفيها كأنها ترقص واستمرت في ضحكها.. توقفت فجأة وقالت لي…
– ما رأيك في فسحة على الكورنيش القريب مع جوزيت بدلأ من البقاء في هذه القاعة.. تستمرون في النقاش ولكن في الهواء الطلق.
القيت برأسي على الكرسي، وقلت لها.. ”حسنا، أخرجيني فقط من هنا“.
– طلبك بسيط.. حالا.
ذهبت ماريتا وعادت وهي تقود جوزيت من يدها… ”هيا لنخرج معا“.. في تلك الفسحة على الكورنيش، لم نعمل، ولم نناقش القضية كما كان مخططا. كنا فقط ثلاث نساء تثرثرن..لكن ماريتا كانت أقلنا شراهة للحديث.. تحوم حول جوزيت.. تمسك بها أحيانا حين تتعثر بكعبها العالي الرفيع، تعدل من معطفها، كان اهتمامها حقيقيا وملفتاً.. كان التعب باديا على جوزيت بعد يوم طويل وشاق من العمل الذهني المكثف.. لكن ماريتا كانت تعبة أيضا، تدور بين القاعة وخارجها، تعد كل مستلزمات العمل، تطبع الأوراق وتجهزها، تشرف على الغذاء، تجري الاتصالات اللازمة، تجيب على أسئلة الجميع.. يتردد اسمها بين شفاه عديدة، يملأ القاعة، بينما تتحرك وسطها كراقصة “سولو” على خشبة مسرح.. كان الجميع يخفت أو حتى يختفي عداها…
– جوزيت أنت منهكة، لندخل هذا المقهى نتناول شرابا يريحك.. قالت ماريتا.
دخلنا وجلسنا، بينما ماريتا واقفة إلى جوار جوزيت.. أخفضت رأسها نحوها، وهمست بحنان…
– جوزيت، مشروبك الاعتيادي أليس كذلك؟
ثم التفتت نحوي وابتسمت…
– ما الذي لا تشربينه؟ وضحكت.
ابتسمت لمزاحها وطلبت قنينة مياه غازية مع سائل النعناع المركز. قهقهت ماريتا..
– لا نشرب هذا المشروب في الجزيرة.
نهضت وذهبت للنادل بصحبتها وشرحت له مطلبي.. ونلته.
طوال ذلك الأسبوع، كانت ماريتا تناولني خليط المياه الغازية بسائل النعناع وتضحك.. قلت لجوزيت، “لا يوجد مثل ماريتا.. كأنها ملاك“. ابتسمت جوزيت وقالت بصوت عال.. “ماريتا ملاك فعلا لا يمكنني الاستغناء عنه حتى بعد موتي“. قهقهت، واسترسلت.. “هي يديّ وقدميّ ورأسي.. لا اتحرك إلا بها، ولا أفكر معها ولا يمكنني العيش بدونها“.
رأيت وجه ماريتا يضيء من جديد، في غبش القاعة الخالية، وقد شابته حمرة خفيفة وهي تقف على آلة التصوير.
انتهت مهمتي في الجزيرة ورحلت.. كانت ماريتا قد أجرت كل ما يلزم من حجز الطيران وتوفير تاكسي لنقلي إلى المطار. لكن ما لم أكن أتوقعه أن تأتي ماريتا إلى الفندق وتصطحبني إلى المطار.
– ماريتا.. صرخت وأنا أراها تدخل بهو الفندق.
– سأصطحبك إلى المطار، قالتها بعفوية وهي تسحب حقيبتي.
– ماريتا ما من داعي لذلك.. اليوم أحد وهو يوم راحتك الأسبوعية.
– أنا لا أرتاح.. ماركو وجو في الكنيسة، ثم إن جوزيت دائما بحاجة إليَ.
جلسنا في مقهى المطار نحتسي شايا أخضر بالليمون، تركت لماريتا مجال الحديث واسعا.. فحكت لي عن ماركو وابنهما الوحيد جو…
– ماركو يملك متجرا لتصليح الدراجات النارية.
– هو فني إذا.
– لا لا هو صاحب المحل، فتحت له هذا الدكان برأسمالي.. ماركو طيب لكنه كسول. لا يريد أن يوسخ يديه، لكنه يحب أن يكون صاحب بزنس.. يأتون اليه لتصليح دراجاتهم أو الاستعراض بها أمام محله.. ابتسمت مجددا.. ماركو يحب العلاقات وتبادل الأحاديث.. هذا ما يجيده…ثم ضحكت.
– يبدو أنك ِلست “دينمو” المكتب فحسب بل الأسرة أيضا.
– هكذا أنا.. محرك يهدر بلا توقف.
كان هذا آخر لقاء لي مع ماريتا…
مضت سنوات، لم أزر فيها الجزيرة التي لم تكن تبعد عن مدينتي إلا أميالا معدودة.. ولكنني عدت إليها ذات شتاء من جديد لأيام قليلة.. وعندها التقيت بجوزيت.. لا أدري لماذا كنت على يقين من أن ماريتا ستكون بصحبتها، تمسك بها، وتعدل من معطفها، وتحضر لها كأسها المعتاد، وتمسك بأوراقها، وتتلقى اتصالاتها، بل وتجد لها مفتاحها التائه دوما في حقيبتها الكبيرة. دخلت جوزيت مقهى الفندق وحيدة.. ضمتني بقوة…
– ما الذي أتي بكِ إلينا.
– مؤتمر.. ثلاثة أيام وأعود.
ما زلت انتظر ماريتا.. حتما ستأتي، لا بد وأنها تأخرت عن جوزيت قليلا.. نزعت “جوزيت” معطفها، أخرجت علبة سجائرها…
– تدخنين؟
– نعم، بعد طلاقي.
– أه، متى كان ذلك.
– مؤخرا..
كنت ما أزال أتوقع دخول ماريتا…
– هل تنتظرين أحد… سألتني جوزيت بعفوية.
– نعم.. ماريتا.
انزعجت جوزيت، وتململت في كرسيها… ثم سحبت نفسا عميقة من سيجارتها، أشاحت بوجهها ونفثت دخان انطلق كثيفا في اتجاه واحد ثم تبعثر وسرعان ما انقشع. لم أتوقع أن تسألي عنها.. قابلتها مرات معدودة.. هي ليست بخير ولم تعد تعمل في مكتبنا.. حاولت جوزيت تغيير الحديث لكنني أصررت على معرفة ما الذي حدث لماريتا…
– تركها ماركو وانتقل مع أخرى، تكبره… ضحكت جوزيت، ولم أضحك.
ثم تداركت نفسها وأردفت:
– ماريتا جميلة وخدومة و”جدعة” ثم هزت كتفيها.. وسحقت سيجارتها قبل أن تنتصف في المطفأة.
لم أر في الأمر غرابة، فالكسالى كالبراغيث يعيشون على دماء الآخرين، خاصة الفائرة والمتجددة والنقية.
– وماذا بعد؟ سألتها…
– ماريتا لم تحتمل رحيله، جُنت.
لم استوعب هذا الأمر، ماريتا قوية وصاحبة مهنة ولا ينقصها شيء لتتأثر بغيابه.
– أخذ مالها وشقاء عمرها… لجأت إلى الشراب.. تخيلي تأتي إلى المكتب ثملة، لم يكن هذا محتملا.. أنهينا خدماتها.
كان طيف ماريتا يحوم حول جوزيت رغم غيابها.. أراها تقف إلى جانبها مطأطأة الرأس لكي تسمعها.. تحضر لها شرابها المفضل، ثم تجلس إلى جانبها تحكي وتضحك.. اتخيلها تودع جوزيت فراشها حين تثمل، تطفئ الأنوار وتغلق الباب وترحل…
تحدثت جوزيت عن كل شيء ولديّها، وصديقها الجديد، وقضايا مكتبها، ورحلتها المقبلة في عطلة أعياد الميلاد..
مازلت أرى ماريتا، تبتسم لجوزيت تهز رأسها تؤيد كلماتها وتكررها أحيانا…
دخلت فتاة إلى المقهى تشبه ماريتا بعض الشيء باستدارة جسدها وشعرها الأشقر الفوضوي، وابتسامتها المشعة، والجلبة التي تثيرها من حولها…
– جوزيت…نادت وهي تقترب منها.
– أه هل جرى كل شيء على ما يرام؟
– نعم.. نعم..
– أنت ملاكي لا يمكن أن استغنى عنك حتى الموت.
التفتت اليّ جوزيت…
– هذه مساعدتي ماريا..
وقفت جوزيت.. تهم بالمغادرة، بينما ماريا تجمع علبة سجائرها وولاعتها وهاتفها، تضعها في حقيبتها الكبيرة، تبحث لها عن مفاتيح سيارتها…
– وداعا.. إن احتجت لشيء اتصلي بماريا…
– لا شكرا وداعا.. التفتت نحو الفتاة، وقلت لها شكرا ماريتا.. عفوا ماريا!
ابتعدت جوزيت، تتبعها ماريا مسرعة.
عزة كامل المقهور